منذ أن خرجت على الدنيا، وأنا لا أعرف إلا طبيباً واحداً أتذكره في طفولتي، اسمه «د.عبدالله صوان»، وكان يملك عيادة عائليّة صغيرة كنت أحب زيارتها، وأسعد برؤية الطبيب لأنه كان لطيفاً جداً، ويحرص على أن يقيس طولي بقلم رصاص على حائط عيادته، وهذا ما يفعله مع كل الأطفال، بالإضافة إلى أني كنت أتوق لأن يفتح الدرج الأخير في مكتبه، لمعرفتي بأنه يقدّم مصاصة في كل مرة ينهي فحصي، ووصف العلاج لوالدتي. (كل الكبار الذين كانوا يزورونه في طفولتهم يتذكرون ذلك).
لم يكن يضع السماعة على قلوب الأطفال فقط بل حتى على الدمى التي يجلبونها معهم طالبين منه الاطمئنان عليها أيضاً، هل هناك لطافة أكثر من ذلك؟
ذكراه لا تغيب عن منزلنا، فهو شهد على طفولتي وطفولة الكثير من أبناء العائلة، لا نذكر أبداً العلاجات التي كان يكتبها لنا بخطه الذي لا يفهمه إلا الصيدلي، ولا نذكر تصاميم عيادته أو أي شيء آخر، كل ما نذكره هو الشعور الذي يملأ قلوبنا، ونحن في غرفة الانتظار ننتظر موعدنا بحماس للقائه، حتى لو كنا متعبين أو حرارتنا مرتفعة، فهو أصبح فرداً مهماً من أفراد العائلة.
تم تشخيص الدكتور بسرطان الدم عام ٢٠٠٠ ومع ذلك كان يلتزم بعمله ليساعد مرضاه، حتى رحل عن الحياة في رمضان عام ٢٠٠٧.
كان لطيفاً مع الجميع، مع موظفيه ومرضاه، يستحمل شكوى الكبار وإزعاج الصغار، وينشر السعادة على وجوه الجميع، فمع مرور ما يقارب ١٦ سنة على رحيله، ما زال اسمه في قلب كل شخص لم يعرف بطفولته طبيباً غيره، ليس لأنه طبيب ماهر وذو خبرة فقط، بل لأنه يفعل كل شيء بُحب، وهذه هي وصفته السحرية التي ضمنت له مكاناً لم، ولن يتغيّر في قلوبنا.
من المهم جداً أن نركز على إنجاز كل شيء في حياتنا بإتقان ومهارة، ولكن كل الإنجازات تبقى ناقصة، إذا لم يتم فعلها بحب وابتسامة، فالحب هو الشيء الوحيد الذي سيراه من حولنا بوضوح، سواء كان طالباً في مدرستنا، أو عميلاً في الوزارة التي نعمل فيها، أو زبوناً في شركة معينة، أو أي شخص آخر تراه في مكان عملك أو دراستنا.
فعندما نرحل جميعاً، لن يتذكر العالم من بعدنا كيف كانت سيرتنا الذاتية مذهلة! أو علاماتنا الجامعية مرتفعة! أو أدائنا المهني ممتازاً! بل سيتذكرون الطريقة التي نعامل بها الناس، والإحساس الذي نخلقه في صدورهم عندما نجلس معهم، والحُب الذين يرونه في أعيننا في أثناء خدمتنا لهم.
رحم الله د.عبدالله وطيب ثراه.
كل الحب لأبنائه وعائلته ..الذين يفخرون به دوماً ويسعدون عندما يخبرهم الناس عن لحظاتهم الجميلة مع والدهم اللطيف.
*تم نشر هذا المقال في نوفمبر عام ٢٠١٧ في جريدة الراية، مع بعض التعديلات التي قمت بها عند نشره في المدونة.
كل الحب،
تهاني الهاجري
التنبيهات/التعقيبات